طارق سعد يكتب: محمد صبحي .. الجوكر الذي يعيش بـ رُبع روح


طارق سعد يكتب: محمد صبحي .. الجوكر الذي يعيش بـ رُبع روح

“فارس بلا جواد” كان اسم مسلسله الذي صنعه ليكشف من خلاله فضائح المؤامرات التي يُحيكها العدو ضد الوطن العربي .. “بروتوكولات حكماء صهيون” التي فضحها في مسلسله ودفع ملايين الجماهير للبحث عنها بعدما تنبهوا لخطورتها لتسجل مبيعات الكتب التي تحمل اسمها أرقاماً خيالية لم تحدث من قبل بدافع من عمل فني معروض على الشاشة تمت محاربته من العدو بشراسة وصلت للضغط على الدولة المصرية لمنعه وانتهى الأمر بعرضه مع حذف أجزاء مهمة منه ضغطاً على “محمد صبحي” وامتثاله للرؤى السيادية في ذلك الوقت.

كان فارساً بلا جواد في سياق المسلسل لكنه في الحقيقة فارس بجواد يملك مواصفات خاصة تضمنه رابحاً في أي سباق مهما كانت التحديات فجواده هو موهبته المتفردة وإصراره وإرادته ورؤيته المختلفة التي تبحث في مناطق فنية متجددة وبعيدة عن المعروض .. عشقه واحترامه لفنه برسالة مؤمن بها يسعى جاهداً لتقديمها .. أخلاق وقيم ومبادىء تتآكل مع الزمن جعلته مهموماً دائماً بالتذكير بها إيماناً منه بمدى تأثيرها وانعكاسها على المجتمع واستقراره فيظل متمسكاً بالحفاظ عليها وإعلائها رغبة منه في تقديم أب عظيم وأم فاضلة للأسرة التي تمثل العامود الرئيسي للمجتمع وهو يكشف لهم أنهم وهم يربون أبنائهم في الحقيقة يربون أنفسهم فيظل “ونيس” لأجيال متعاقبة يلهثون وراءه بنفس الشغف فتتجمع كل هذه الخلايا ليخلق منها الله لهذا الفارس جواده.

أرشيف “محمد صبحي” الفني قيمته تتمثل في عبقريته فعلى مستوى المسرح نافس الكبار من أساتذته “الريحاني والمهندس وإسماعيل يس” وصنع مسرحه الخاص بأفكاره ورؤاه .. صنع فريقه وفرقته .. قدم أعمالاً سُجلت كضلع من أضلاع المسرح ويظل عرضها لعقود طويلة من الزمن يحمل نفس البريق والوهج “الجوكر – الهمجي – تخاريف – وجهة نظر – ماما أمريكا” وقبلهم “انتهى الدرس يا غبي والبغبغان وإنت حر” وبعدهم إحياء الروايات القديمة في مهرجان المسرح “لعبة الست – كارمن – سكة السلامة” هكذا صنع “صبحي” مسرحه ولكن تظل مسرحية “الجوكر” هي العلامة المميزة كأول عمل مسرحي يقدمه بطل بشخصيات مختلفة مستخدماً أقنعة الوجه أما “عم أيوب” فكان أول شخصية تقدم بهذا الشكل المتكامل ليبقى “عم أيوب” على مدى الأجيال وكأنه شخصية حقيقية حية شاركت في بطولة العمل ويظل هذا
الـ “كراكتر” أيقونة تاريخية بتفاصيله وإيفيهاته.

في الدراما صال وجال “صبحي” بين “رحلة المليون – سنبل” و”فارس بلا جواد” و”ملح الأرض” و”عايش في الغيبوبة” و”يوميات ونيس” الذي ذهب به بعيداً عن كل الأعمال الدرامية ليصبح حالة خاصة جداً بأجزائه وأبطاله.

أما السينما فقدم من الأعمال الناجحة “الشيطانة التي أحبتني – العميل رقم 13 – أونكل زيزو حبيبي – علي بيه مظهر” ولكنه لم يستمر مشواره فهناك من النجوم من لا تنطبق على مقوماتهم كراسة شروط السينما!

بالرغم من قيمة “محمد صبحي” الفنية والإبداعية إلا أنه يعاني بين كل حين وآخر من الهجوم على شخصه والمضحك أن الهجوم ينال من تمسكه بالقيم والمبادئ والأخلاق فشر البلية ما يضحك ولا يتورع هؤلاء المتنطعين من السخرية من أخلاقه وهو أمر مؤسف في العموم ولكنه منطقي عندما يفعله من لا يعرف الأخلاق فسوء التربية هو أسوأ جريمة يمكن ارتكابها في أي مجتمع.

لم يفقد “صبحي” شغفه وصلابته وسط هذه المعارك البلهاء ولكنه على جانب آخر يفقد ما هو أغلى عليه منذ فترة طويلة .. روحه التي بدأت تتآكل مع سقوط جزء مهم من مكوناتها .. رفيقة حياته الفنية ومشواره الطويل “سعاد نصر” التي رحلت فجأة في أوج نجاحه ونشاطه الفني والتفاف الجمهور حول “ونيس ومايسة” الذي قدم بهما “صبحي” كتابة وإخراجاً أعظم نموذج مثالياً لزوجين يتمنى أي بيت أن يحويهما .. ضربة قاصمة تلقاها “صبحي” في غفلة لم يتوقعها أو يحسب حسابها .. فقد “رُبع” روحه كاملة حاول فيها لملمة جراحه واستكمال مشواره وحلمهما وتصوير أجزاء جديدة من “ونيس” دون “مايسة” ليظهر واضحاً عليه وعلى العمل بأكمله تأثير الفقد وغياب “سعاد نصر” الذي تسبب في وجع كل من ارتبط بالمسلسل فشعروا باليُتم في وجود “بابا ونيس” وحيداً بعد وفاة “ماما مايسة”.

اجتهد الفارس بكل طاقته ليعبر بجواده هذه الكبوة إلا أن القدر كان له رأي آخر فيفقد قطعة جديدة من روحه وهي زوجته ورفيقة الحياة .. الحبيبة والصديقة والأم أيضاً “نيفين رامز” .. ضربة جديدة أقوى بكثير تصيب الفارس المخلص المتشبث بلجام جواده وهو يئن من الألم حتى أصاب الأنين قلبه ويمر بوعكة صحية حزناً على الفراق وفقدان نصف روحه المتمثل في “سعاد نصر” ثم زوجته “نيفين” ….

ربما تعافى “صبحي” من الألم الصحي لكنه حتى هذه اللحظة لم يتعافى من الألم النفسي وهو الأصعب في علاجه.

لا استسلام .. هكذا يكون الفارس خاصة إن كان فارساً نبيلاً يشارك في بناء مجتمعه وينفذ مشروع طالما حلم بيه وهو إزالة العشوائيات واستبدالها بسكن آدمي .. لم يدخر “صحبي” جهداً وأخرج طاقته التي سجنها الألم فيه .. انتصر “صبحي” لنفسه وانتصر على ألمه وشارك في تحقيقي مشروعه لتصفق له بحرارة كما صفقت له في مسرحه فما الدنيا إلا مسرح كبير كما قال الراحل “يوسف وهبي” ولكنك تسأل سؤالاً ثعبانياً .. أين هؤلاء المتنطعين ولقطاء الـ “سوشيال ميديا” اللذين يمتهنون الهجوم على هذا الفارس وأمثاله ويسخرون من جواده؟ ماذا قدموا وماذا أنجزوا؟ لتكتشف أنهم هم أنفسهم مجموعات من العشوائيات التي تشوه المجتمع وتحتاج للاقتلاع فوراً فالفقر ليس فقر المال .. ولكنه فقر العقل والأخلاق.

وسط زخم الأحداث ومع رياح الزمن تتساقط أوراق شجرة فرقة “صبحي” فيرحل “شعبان حسين” و”زوزو نبيل” و”جميل راتب” و”ممدوح وافي” و”محمود أبو زيد” و “نادية عزت” و”شوقي طنطاوي” و”عايدة عبد العزيز” بعد انعزالها لسنوات بسبب وفاة زوجها ثم صراع مع المرض بالإضافة للمؤلف “مهدي يوسف” والمخرج “أحمد بدر الدين” ليعود إلى اكتشاف المواهب الجديدة وتقديمها في عروض جديدة فطالما كان مفرخة للنجوم “صلاح عبدالله – أحمد آدم – هناء الشوربجي- منى زكي – هاني رمزي – عبلة كامل” وغيرهم وإعادة البريق لكل نجوم فرقته على رأسهم “جميل راتب”.

عمر طويل قضاه “صبحي” وسط عائلته الفنية ليكتشف فجأة وهو يعود إلى المسرح من جديد بشجرة فرقته تستقبله بأوراق قليلة متبقية بها فكم من الحزن والألم والمرارة في كلمتين فقط “فقدت فرقتي” قالهما وسط حوار طويل مع أحد المحاورين وهو في الحقيقة فقد جديد لجزء آخر من روحه ينضم لما سبقاه ويكمل فقد ثلاثة أرباع روح الفارس الذي مازال يحكم قبضته على جواده ويتحكم فيه على أرض وعرة دون أن يسقط.

مازال “محمد صبحي” يملك من روحه شغفه بالفن ورسالة تدفعه لتقديم الجديد متجاهلاً الإساءات عابراً الجحود من البعض .. يعرف طريقه جيداً .. هو “الجوكر” .. بالرغم من كل آلامه إلا أنه مستمر في إنجاز مهامه وإسعاد كل الحاضرين.

“محمد صبحي” الذي ابتعد عن هموم الحياة وانفرد بهموم فنه ..”صبحي” الذي تبقى متعته الوحيدة في الحياة أن يعيش لفنه ويعيش بفنه ..

هو “الجوكر” .. الذي يعيش بـ رُبع روح!