طارق سعد يكتب: عودة دياب في الحتة الفاضية


لا يختلف اثنان على أن اللون الشعبي في الغناء هو اللون الذي يلتف حوله الجميع بمختلف الثقافات والمستويات فالغناء الشعبي دائماً هو متنفس التعبير بشكل بسيط فقد تختلف الأذواق على الألوان الغنائية المختلفة ولكن يظل الشعبي هو نجم الغناء الأول.

رغم ما يحتله الغناء الشعبي من مكانة شعبية بمختلف درجاتها بتاريخ طويل صنع فولكلوراً مميزاً لمنطقة غنائية مصرية خاصة جداً التف حولها الوطن العربي إلا أنه لم يهان ولم يُسحل قدر ما حدث مع هذا اللون في السنوات الأخيرة بإلباس أية جريمة غنائية ثوب الشعبي وتدمير اللون الغنائي الذي ننفرد به ببصمتنا الشخصية فكم من الجرائم المهرجانية ترتكب باسم الشعبي!

الحقيقة أن تراجع الإنتاج الموسيقي فتح بوابات خلفية و”بالوعات” خرج منها ما أنزل الله بهم من سلطان وتمرير سمومهم عبر ما قدموه باسم المهرجانات وبرروه بالغناء الشعبي فمثلما هناك مجرمو حرب .. هنا أيضاً مجرمو غناء!

تراجع صناعة الموسيقى تسبب في تراجع نجوم لها ثقلها فلم تعد هناك شركات إنتاج تنتج ألبومات كما في السابق ولا يستطيع المطرب صناعة ألبومه بتكاليفه الباهظة من جيبه الخاص في ظل هذا التراجع الكبير في صناعة الأغنية ومستواها فصنع هذا الوضع فجوة كبيرة ليعيث مجرمو الأغنية فساداً في “الحتة الفاضية”!

الغناء الشعبي أنجب نجوماً كبيرة ولها ثقلها على مر التاريخ مثل محمد رشدي و العزبي وعدوية ثم انتقل الشعبي لمراحل حديثة صنعها حكيم من قلب الشارع المصري وحاول سعد الصغير صناعة لون “تجميعه” يخصه وظل الوضع مستقراً حتى خرج العفريت الغنائي من قمقمه ليقدم اللون الشعبي “المودرن” ويصنع نجاحاً مزلزلاً بلا مقدمات يهز السوق الغنائي ويصبح منافساً شرساً خاصة بما يمتلكه من صوت مميز و”كاريزما” أوصلته لكل الفئات وجعلت أغنياته في مقدمة القوائم الغنائية في كل المناسبات ومطلب ثابت في كل الحفلات ليشتعل سوق الغناء الشعبي ويحسب 1000 حساب لنجم المرحة “دياب”.

أكثر ما وضع “دياب” على القمة بساطته وروحه الخفيفة التي جعلته فرداً من أفراد الأسرة وتقديمه كلمات “نظيفة” في أغنياته فلم يلجأ للـ “سوقية” لينتشر ولكنه مع منتجه “نصر محروس” أحد أهم عباقرة صناعة الموسيقى في العقد الأخير ومكتشف “دياب” استطاعا ترويض اللون الشعبي لصالح مطرب يحمل كل مقومات النجومية ومنحه الله حباً سريعاً لدى الجمهور منذ الطلة الصوتية الأولى بأغنية “غمازات” ليستحوذ “دياب” على منطقة غنائية جديدة صُنعت خصيصاً لتناسبه وهي “الشعبي الشيك” وكما راهن عليه الداهية الموسيقية “نصر محروس” كان دياب على قدر الرهان واستحوذ على المنطقة بمفرده بكل قوة جعلت من المستحيل تواجد منافس له على الساحة.

من المؤلم أن تتوالى النجاحات المدوبة وعلى التوازي تتراجع صناعة الموسيقى بشكل مرعب ليجد “دياب” نفسه على رأس ضحايا هذا الوضع الصادم الذي أصاب الساحة بسكتة غنائية مفاجئة فيتراجع إنتاجه الغنائي متأثراً كباقي زملائه كبيراً وصغيراً بعدما أصبح الوضع كارثياً.

في هذه الحالة قد ينتهى المطرب إلا إذا كان يملك موهبة حقيقية وإرادة وجماهيرية أيضاً وهي المقومات التي انتقل بها “دياب” إلى التمثيل ليحقق نجاحات نافست نجاحاته الغنائية وكان الجمهور مهيئاً لاستقباله بحفاوة ومنحه الله تعويضاً كبيراً عن خسائره الغنائية في هذه الفترة ليصبح اسم “دياب” اسماً لنجم متكامل ورقماً مهماً ومميزاً في المعادلة الفنية بكل أطرافها

نجاح “دياب”واستمراره لم يكن مصادفة بل مدروساً بذكاء فطري يمتلكه وهو ما تثبته اختياراته فلا يسعى للتواجد ويضطر للتنازل لكنه يحسبها بدقة ولا يهمه طول الانتظار لتقديم أغنية جديدة ولا ينظر لمساحة الدور في عمل فني .. هو يبحث عن التأثير فيشترط على نفسه أن يترك ما يقدمه بصمة مؤثرة تلتصق مع الجمهور ولا تتركه وهو ما نجح فيه بجدارة منذ بداية احترافه التمثيل فكم من الأعمال التي شارك فيها “دياب” لها أبطالها وتنتهي ببطولة جماهيرية له عند الجمهور ويحصد الـ “سوكسيه” والآهات والتصفيق الحاد وتظل مشاهده هي الأولى انتشاراً على مواقع الـ “سوشيال ميديا” وهو النجاح الحقيقي الذي يُبنى على أساس قوي بتمهل طوبة فوق طوبة فيصبح المبنى في النهاية صلب لا يتأثر بالتغيرات المحيطة.

نفس التأثير يبحث عنه “دياب” في الغناء فاختياراته محسوبة .. هو مطرب الحالة وليس تعبئة والسلام .. فُرض على “دياب” منذ بدايته أن يصنع حالة مع كل أغنية ولم لا وهو نفسه حالة مختلفة عن كل المنافسين فتمهل وتأنى وحاول مع منتجه “نصر محروس” ولكن القيود الإنتاجية في ظل تدهور صناعة الموسيقى أخرته كثيراً حتى قرر الانفصال عن منتجه ومكتشفه بالتراضي وبمباركة صديقهما المشترك “تامر حسني” لتنفك عقدة “دياب” أخيراً وهو المتشوق للغناء والتفاف الجمهور حول أغنياته ولكن كان التحدي ….

هل يستطيع “دياب” تقديم جُمل غنائية ولحنية وموسيقية بخلطة مميزة مثلما قدم سابقاً مع “نصر محروس”؟!

الحقيقة أن “دياب” دائماً هو “الفرس الكسبان” فيخرج على الجمهور بأغنية جديدة من كلمات وألحان “عزيز الشافعي” الذي قرر مواجهة انهيار صناعة الموسيقى ومحاولة إعادة ترميمها بإنتاج غنائي غزير ولافت وهو ذكاء من “دياب” أيضاً أن يقدم معه “يا ساتر” فينفض الغبار عن حجرته بقوة ويستعيد بريقها ويعود محافظاً على نفسه بنفس الحالة الغنائية ليكسب الرهان مجدداً ويضيف في رصيده من ثقة واحترام جمهوره المهموم “دياب” باستمرار ألا يخذلهم.

عودة “دياب” ليست مجرد عودة تخصه وحده ولكنها عودة الروح للغناء الشعبي .. عودة المطرب الشعبي”الشيك” ورد الاعتبار للأغنية الشعبية بعد التنكيل بها مهرجانياً لتكتمل أضلاع العودة الغنائية الكاملة بكل ألوانها وهو ما ظهر نتيجته في الفترة الأخيرة بتراجع الطفح في البالوعة الغنائية بعد عودة سيطرة الأغنيات الحقيقية على الساحة من جديد وعودة نجومها للصدارة بقوة بما أعطى قبلة الحياة لصناعة الموسيقى وأملاً في ملئ “الحتة الفاضية” التي تركوها استسلاماً لوضع لا يصح له الاستمرار في بلد صنعت التاريخ الموسيقي الشرقي.

“وتعالى وتعالى وتعالى – وتعالى في الحتة الفاضية .. وتعالى وتعالى وتعالى – وتعالى نديهم القاضية”

ليست مجرد كلمات أو”إيفيه” من أغنية “ياساتر” لـ “دياب” ولكنها تلخصياً موجزاً لعودته من جديد …..

عودة “دياب” في “الحتة الفاضية” بالضربة القاضية.