عرض فيلم The Fabelmans عن السيرة الذاتية لـ ستيفن سبيلبرج الذي يتناول نظريات علم النفس والدفاع عن اليهود في مهرجان القاهرة السينمائي ال 44


هذا الفيلم أشبه بجلسة علاج نفسي وكأن صاحبها يجلس على “شيزلونج” ولكن ليس في عيادة الطبيب، بل أمام الالآف في قاعات السينما.

تناولت نظريات علم النفس كثيرًا تكوين الشخصية الإبداعية، آلام الطفولة هي التي صقلت شخصياتهم إلى ماسات ثمينة وسط ملايين البشر العاديين، وهذا ما أراد أن يخبرنا به المخرج ستيفن سبيلبرج في أحدث أفلام The Fabelmans الذي شهد مهرجان القاهرة السينمائي عرضه الأول في الشرق الأوسط.

151 دقيقة مصنوعة من قلب صاحب الستة عشر ترشيحًا للأوسكار والفائز بها ثلاث مرات، ليقدم بعد خمسين عامًا من رسم الأحلام على شاشات هوليوود تحفة فنية تتناول سيرته الذاتية كاشفا أدق أسرار طفولته وعائلته.

خلال مسيرته الحافلة قدم سبيلبرج أفلامًا عن كل الأشياء الحية والخيالية في هذا الكون، أسماك القرش والديناصورات والكائنات الفضائية والأبطال الخارقين، صنع كل شئ يمكن نقله على شاشة السينما وتجنب شيء واحد فقط هو “سبيلبرج “نفسه.

رسم مخرج “اي تي” و”حديقة الديناصورات” عائلة مشابهة لعائلته تحت اسم “فابليمان” ليروي الطفل والمراهق “سام فابليمان” قصة الطفل ستيفن سبيلبرج ابن العائلة اليهودية الذي عرف السينما لأول مرة عندما اصطحبه والداه لمشاهدة فيلم.

في تلك الليلة عاد إلى منزله وخياله معلق بمشهد حادث القطار الذي ألقى في روحه بذرة الإخراج ليعيد تنفيذه مستخدمًا قطار “لعبة” أهداه إياه والده، ثم ينفجر المخرج الصغير ليستخدم شقيقاته وبقية أفراد العائلة في صناعة أفلام منزليه تعكس بريق موهبة مشحونة بخيال الطفولة.
المشاهد الأولى للفيلم أشبة باجابة لكل تساؤلاتك حول سر قدرات سبيلبرج في صناعة المؤثرات السينمائية بسهولة وواقعية ، خاصة وأنه بدأ ممارسة هذه اللعبة مبكرًا في السابعة من عمره!

أنا القصة التي ترددت في تقديمها!
في حديث أجرته معه جريدة نيويورك تايمز يحكي سبيلبرج عن رحلة ظهور هذا الفيلم للنور وتحديدًا مع اندلاع جائحة كورونا في: “كان لدي الكثير من الوقت بعيدًا عن العمل، سافر أبنائي للبقاء في منزلنا بالساحل الشرقي، بينما اعتدت ركوب سيارتي وحيدًا والقيادة لساعات في جميع أنحاء لوس أنجلوس، وقد منحني ذلك مزيدًا من الوقت للتفكير فيما كان يحدث في العالم. بدأت أفكر ، ما هي القصة الوحيدة التي سأكون غاضبًا حقًا من نفسي إذا لم أخبر؟ كانت الإجابة في كل مرة: قصة سنوات نشأتي ما بين 7 و 18 عامًا ، القصة التي ترددت في تقديمها خلال حقبة التسعينات بعد أن عرضت على شقيقتي مشاركتي في كتابتها، ولكنني لم أجد أفضل من شريكي في “ميونخ” و”لينكولن” المؤلف توني كوشتنر ليتقاسم معي حكاية هذه الذكريات.

هو فيلم حميمي للغاية ومؤلم أيضًا للغاية، العائلة التي تبدو نموذجية أمامك في المشاهد الأولى من الفيلم، تتعرى شيئًا فشيئًا بمجرد أن التقط الإبن “سام” الكاميرا ليسجل يومياتهم ورحلاتهم لتلتقط عينة قصة حب سرية بين أمه عازفة البيانو “ميتزي” وبين “بيني” صديق والده وشريكة.

في تلك اللحظة يفتح الفيلم كل الجروح التي شكلت شخصية سبيلبرج، خاصة مع قرار الأب بانتقال الأسرة لكاليفورنيا فور تلقيه عرضًا للعمل في شركة جينيرال اليكتريك، التحول العنيف الذي ارتطم بمصير عائلة ناجحة كحادث القطار الذي شاهده في السينما لأول مرة، بدأ بابتعاد الأم عن حبيبها السري ، وبجرأة لاتخلو من شاعرية ألقى سبيلبرج الضوء أمام الجمهور على جروحه العميقة، صدمته في أمه، ثم شعوره بالتفكك الأسري بعد طلاق الأبوين ورحيل شقيقاته للعيش معها، ثم تكتمل الصورة بتعرضه للاضطهاد في المدرسة الثانوية بكاليفورنيا لكونه يهوديا.

معاداة السامية وأشباح الماضي
على مدار رحلته السينمائية تطرق سبيلبرج لمعاداة السامية، تارة بالمواربة والطرح غير المباشر، وتارة أخرى بصورة واضحة وصريحة كما هو الحال في فيلم “ميونخ” الذي طرح فيه مظلومية الهولوكوست على خلفية قصة مطاردة الموساد لمنفذي عملية ميونخ عام 1972 ، وفي هذا الفيلم شرح بصورة أكثر وضوحًا سر عقدته من معاديي السامية وهي شريحة كانت كبيرة في المجتمع الأمريكي في هذا الوقت، ولكنها لم تكن معادية للسامية فقط بل لكل الطوائف والديانات والأجناس المختلفة تحت مظلة عنصرية غطت هذا المجتمع لعقود طويلة.

كل هذه التفاصيل بدت على الشاشة وكأنها اعتراف في جلسة علاج نفسي ، اعتراف بحاجة بطل القصة لكيان ينتمي له بعد تفكك أسرته فوجده في السينما، اعتراف بحاجته للاحترام من أقرانه فوجده في الكاميرا التي كانت بمثابة جواز سفر اجتماعي له ليتقبلوه، وأخيرًا اعتراف منه بانتمائه لذاته ونفسه التي أصبحت فيما بعد جدارا عاليًا يحميه من تكرار جروح الماضي.

الكاميرا كانت ومازالت وسيلته للحديث والتقرب من الناس، والاعتراف لهم ومواجهتهم ،مثلما حدث في مشهد مواجهته لأمه بعلاقتها السرية، لم يتحدث، فقط صنع فيلما قصيرًا من مشاهدها ونظراتها مع صديق والده ودعاها لتراه في غرفته، واحد من أعظم وأجمل مشاهد المواجهة التي تركتني في حيرة : هل فعل ذلك بالفعل أم هي حبكة سينمائية من خياله؟

على امتداد الفيلم هناك خطوط رمزية واسقطات بين السطور والجمل الحوارية، منها مثلا الحوار الذي دار بين سام وشقيق جدته “بورس”ممثل الأفلام الصامته العجوز، جُمل مفتاحية تنقل فلسفته في الحياة مثل : “العائلة والفن .. سيقسمانك إلى نصفين” ، “الذنب هو عاطفة ضائعة” ، “أنت لاتدين بحياتك لأحد”.

قدم لنا سبيلبرج على مدار ساعتين ونصف وصفة لصناعة تحفة سينمائية من السيرة الذاتية، صاغ من طفولته ومراهقته التي تشبه حياة الملايين قصة أقرب لصناعة “أسطورة” بحرفية حكاء هوليوودي متمرس في خلق الأبطال الخارقين والمخلوقات المرعبة والكائنات الغريبة ليصنع من نفسه بطلًا خارقًا قوته هي الكاميرا.