وفاة الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين


توفي الشاعر اللبناني ، محمد علي شمس الدين فجر اليوم عن 80 عاماً بعد انتكاسة صحية لازم خلالها المستشفى لايام، وقد نعته ابنته الشاعرة رباب.

ورثته بالقصيدة التالية:
لم تعلمني كيف تكفن القصيدة
وقد غسلناها بدمع المحاجر
ولم تعلمني كيف يدفن الشعر
ولم تخبرني أن للشعر مقابر
حفرت كل تراب بيروت يا أبي
فما وسعتك بيروت
يا أيها الشاعر
فأين أواري جسدك المقدس
وكيف ترثيك في الموت المنابر…

وكتب الباحث أحمد بيضون في وداع الشاعر: “أسفاً على محمّد علي شمس الدين وخسارةً لما في ديارنا من شعر.
ولكنّني لا أرى في رحيلِه سبَباً للزَعْمِ أنّني أحبَبْتُ كلَّ ما قرأتُ لهُ من شعر.
ما لم أُسِغْهُ في كثيرٍ من هذا الشعْرِ كانَ ما وجدتُهُ بقيّةً من شعرِ الجيلِ الذي سَبَقَ جيلَهُ (وجيلي) من شُعَراءِ جبل عامل. وهو ما أسَمّيهِ “السُكّر زيادة” في العبارةِ وفي الصورة.
هذا متعلّقٌ بذوقي، على الأرجحِ، ولا ينتقصُ من خسارةِ الشعرِ وخسارتِنا برحيله.
أَسَفاً عليه”.

وكتب الشاعر شوقي بزيع في رثائه: “يمضي وعيناه على ( الريحان) مطبقتان / تتصلان بالشجر العظيم لغابة الأسلاف / نهرا حنطةٍ كفاه / والزيتون يتبعه وزهر البرتقال”.
سقط محمد علي شمس الدين. لا كما تسقط الأوراق عن فروع صيفها الآفل، أو كما تسقط فكرة نافلة من عتمة الذاكرة، بل كما تسقط المدن والنيازك وأبطال الملاحم القديمة.
ومع ان جسده قد بدأ بخذلانه منذ زمن طويل، إلا أنه بكبريائه المعهودة، لم يسمح للموت بأن يقوده ساعة يشاء الى حتفه النهائي، بل أمسك هو نفسه بزمام المبادرة. وفي الموعد القياميّ المضروب لسقوط الأبراج، حيث كان قمر الجنوب في ذروة اكتماله، قرر محمد علي أن يعقد مع الموت صفقة بالتراضي، تنازل من خلالها لهذا الأخير عن جسده الترابي، فيما الشعلة التي رفعتها قصائده فوق أعلى القمم، ستظل أبد الدهر، عصية على الانطفاء”.

وكتب الشاعر يحيى جابر: “وداعا للشاعر محمد علي شمس الدين، كنا دوما نلتقي ونتحاور وقوفا على رصيف ما في شارع الحمرا. لم يكن متواجدا بيننا كشاعر نديما في حانة او مقهى. بل كان شاعرا مشاءً انيقا بشعره مع بدلة وربطة عنق، وكم كان فصيحا في طرافته ونقده لنا. الموت لم يفارق كل قصائده. البارحة مات الرصيف ومات شارع الحمرا واليوم مات الشاعر. مثل كبرياء يمشي مرفوع الرأس، ويحاور موته على رصيف”…

وشمس الدين أو “أميرال الطيور”(عنوان أحد كتبه)، هو أحد “شعراء الجنوب” التسمية التي اطلقت على مجموعة من شعراء جنوب لبنان في السبعينات والثمانينات، ولد في العام 1942 في قرية بيت ياحون الجنوبية، ونشأ في بلدة عربصاليم وفيها كبر. وكان لنشأته الريفية والجنوبية والعاملية الدينية دورها في شعره وعباراته وقاموسه ولغته، إذ عاش في بيئة مشبّعة بروح التدين بكنف جده الشيخ قارئ الأوراد و”المتمتع بصفات بين الدين والسحر”. هذا المعطى الديني “شكل حضنا شعريا وانتهى إلى أن يكون في أساس ما كتبه في مرحلته الأخيرة من شعر عرفاني، مثل قصائد “يوميات الصمت” وديوان “شيرازيّات” وقصيدة “الحيرة”. “هذه مرحلة جوهرية في حياتي الشعرية”، يقول في حوار صحافي، حاول شمس الدين التعبير عن الواقع بالكلمات. ومن بعد ذلك حاول استعادته بالشِّعر. بدأْ بالقصص القصيرة، ثُمّ بالحِكم والأقوال المختزلة، ثُمّ وصلْ إلى القصيدة التي جاءت نتيجة احتكاكه الجسديّ بالعناصر المحيطة به، و”الإحساسي والعقلي بشؤون كثيرة وكبيرة منها الله، والخَلْق، والرُّوح والحبّ”، يقول “جذبني، وأنا فتىً، أبو العلاء المعرّي، في آلامه وشكوكه، خاصّة منها ألم العقل، فكتبْتُ أوّل ما كتبْتُ أبياتاً تُنْسج على منواله في الشكّ والسؤال واللغة؛ ثُمّ استهواني أبو حيان التوحيدي في “المقابسات”، وكنْتُ قد قرأتُ ذلك كلَّه وسواه، في مكتبة جدّي الشيخ في القرية”.

بعد دراسته الأولى في القرية، نقل والده عمله وعائلته إلى بيروت مطلع الخمسينيات. تابع الدراسة التكميلية في “ثانوية فرن الشباك”، وكان يذهب إليها مشياً من منطقة الشياح. في معرض توصيفه لتلك الأيام، قال مرّة: “أنا “ميم”، الرجل المشّاء. أضع يديَّ في جيوبي عندما يهبط الليل على بيروت وأمشي. شوارع المدينة طويلة ومتعرّجة مثل حكاية بلا بداية ولا نهاية. وأنا فيها متسكّع المسافات التي لا تنتهي”. وضع لنفسه برنامجاً لحفظ مقاطع من الشعر الفرنسي خلال الذهاب والإياب، ما أفاده لاحقاً في دراسته: “كنت الوحيد في صفّي الذي نجح في البروفيه الفرنسية عام 1958″، كأن صورة المشاء بقيت حاضرة دائمة في حياة شمس الدين، فهو حتى سنوات قليلة كان يمر في شارع الحمرا، لا يجلس في المقاهى على عادة الشعراء، بل يمشي على الرصيف، أو يبقى في منزله، أو يذهب إلى بلدته حيث يعشق الطبيعة…

محمد علي شمس الدين حائز دكتوراه دولة في التاريخ، كما يحمل إجازة في الحقوق. وعمل كمدير للتفتيش والمراقبة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في لبنان. وتولى منصب رئيس المفتشين في الضمان الاجتماعي وكان من موظفي الفئة الأولى. برز في الشعر منذ العام 1973، وقد شارك في العديد من المهرجانات الشعرية في البلاد العربية. قبل ديوانه الأول “قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا”، كتب مئات القصائد. “كنت أكتب قصائد وأتلفها أو أخفيها في مكان ما، إذ كنت رهين النوعية منذ الصغر، وقلقاً جداً وشكّاكاً”. من البداية، تسكنه طبيعة الجنوب وجنائزه وكربلائياته، إضافة الى الفلسفة الشعبية التي “تعتبر أن الموت شكل من أشكال الحياة”، وانتماء شمس الدين للجنوب “كانتماء الجرح للطعنة، فهو انتماء قوي وحار ودموي”، يضيف “لكني انتهيت الى أن أكون شاعرَ لغتي”. 

نتاج شمس الدين الشعري لا ينحصر في مجال واحد. غالب شعره يتفاعل مع رموز التاريخ العربي والإسلامي من الحلاج الصوفي إلى الواقعة الكربلائية… يقول” إن قراءات لاقطاب الصوفية كإبن عربي في الفتوحات المكية والحلاج والبسطامي والشبلي وذي النون المصري وجلال الدين الرومي والعطار النيسابوري وحافظ الشيرازي. زودتني بمفاتيح الصوفية وبعض أسرارها.