طارق سعد يكتب: فاترينة كريستال الفاخرة


طارق سعد يكتب: فاترينة كريستال الفاخرة

أصبح من السهل تقديم عملاً درامياً ففي أسابيع قليلة تستطيع أن تكون جاهزاً للعرض وأيضاً بالدعاية اللازمة لإعلان نجاح عملك … أما الصعب الحقيقي هي الصناعة نفسها التي يتوجب عليها أن تٌخرج إلى المشاهد عملاً متميزاً بجودة تحترم الجمهور ويحقق به نجاحاً مقنعاً دون الاستناد إلى الدعاية المبالغ فيها أو اللجان الإلكترونية .. نجاحاً غير محدود الصلاحية يدفع المشاهد لأن يلهث خلف العمل حتى تنتهي حلقاته بل يشاهده بعد ذلك مرات عديدة وهو مقياس النجاح الحقيقي.

هذا بالضبط ما استطاع مسلسل “كريستال” تحقيقه عن جدارة وبمنتهى البساطة في معادلة دائماً هي الأصعب في واحد من أفضل الأعمال الدرامية العربية صناعة خاصة أنه تعريب للمسلسل التركي “حرب الورود” بحرفيه شديدة قادها سيناريو لـ “لبنى مشلح” تميز بالتشويق والإثارة وحوار لـ “مي حايك” بسيط وقوي في نفس الوقت وأيضاً ناجز بلا تطويل أو حشو فابتعد عن الملل وجذبك للتعلق في أطرافه خاصة مع التصاعد المتواصل للأحداث بسخونة تدريجية.

ولأن الصناعة تلعب هنا في “كريستال” دور البطولة الرئيسي فكان شعارها “إدي العيش لخبازه” وتم إسناد مهمة الإخراج للمخرج التركي “هاكان أرسلان” الذي استطاع بسلاسته وحرفيته نقل الصورة التركية للمسلسل في الإطار العربي ليخرج مزيج فاخر ساحر يجبرك على تعلق عينيك بالشاشة طوال مدة عرض الحلقة.

اختيارات الأبطال في “كريستال” كانت في منتهى الدقة والحرفية كمطابقة لأبطال “حرب الورود” التركي ولكن أبطال النسخة العربية فاقوا في أداءهم أبطال النسخة الأصلية ويرجع ذلك للـ “روح” الموجودة في سخونة الدم العربي وهو ما يفتقده الأتراك وكان سبباً قوياً في تفوق النسخة العربية في النجاح بمراحل واكتساح النسخة التركية الأصلية مما دفعهم لإعادة نشر حلقات المسلسل ال 90 عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإثبات الوجود ولكن “كريستال” طغى وحقق المفاجأة.

“باميلا الكيك – عليا كرم”: قفزت بمنتهى القوة على قمة البطولة النسائية اللبنانية بأداء أقل ما يوصف بأنه رائع فشخصية “عليا” مركبة وفي منتهى الصعوبة تحمل بداخلها كل المشاعر والأحاسيس المتضاربة وأيضاً ردود أفعالها لتجعلك تعجز في الحكم عليها بشكل صحيح قاطع فهل هي ظالمة أو مظلومة .. شريرة أم غرورها ونرجسيتها يدفعاها لهذه الصورة .. قاسية أم مازال قلبها ينبض بالمشاعر ..

نجحت “باميلا” أن تشتتك عن التقاط موجات “عليا” وتنقلت هي بين موجاتها بمنتهى الرشاقة المهارية غير المعهودة دون القدرة على فك شفراتها وهي النوعية الأصعب من الأدوار التي تحتاج لممثل يملك أدواته بذكاء وأحياناً بدهاء أيضاً ويجيد تضليلك بتعبيراته فلا تستطيع التنبؤ بردات فعله في المشاهد التالية وهو ما تتميز به “باميلا” ويعرفه جيداً من يتابعها على مدار مشوارها الفني في ما قدمته من أعمال وحققت به اليوم جماهيرية ساحقة في الوطن العربي يفوق توقعاتها وهي من أهم أسباب النجاح الساحق للنسخة العربية مقارنة ببطلة العمل التركي.
الحقيقة أن “باميلا الكيك” مكسب كبير للبطولة النسائية اللبنانية وستفتح الأبواب لنوعية جديدة من الأدوار التي تفتقدها بوجود ممثلة بقدرات وإمكانيات “باميلا” الفنية التي تملك تقديم أدوراً يصعب على منافساتها تقديمها وهو ما سيساهم بدوره في إعادة صبغ الأعمال الدرامية العربية بألوان جديدة ..
وعلى “باميلا” التمسك بهذه الفرصة وأن تٌحسن اختياراتها القادمة ولا تفرط في مقعدها التي قبضت عليه على القمة وأن تعيد صياغة نفسها من جديد خاصة في ظهورها الإعلامي بما يليق بالمرحلة الجديدة.
ويبقى السؤال الأهم .. هل تقفز “باميلا” فوق هذه المرحلة إلى الدراما المصرية؟

“باميلا” مؤهلة تماماً لذلك ونجاحها بهذا الشكل متوقع وستضفي روحاً مختلفة والأفضل أن تكون طلتها الأولى بجنسيتها بلهجتها وهو ما سيحقق لها اختلافاً وتميزاً كبيراً .. “هيك بيلبقلها”.

“ستيفاني عطا الله – فاي”: نجمة صعدت سطعت بقوة .. من أول طلة تشعر أنها خٌلقت لتكون نجمة .. تمتلك كل المقومات من كاريزما وجمال خارجي وداخلي وتلقائية شديدة وبساطة غير متكلفة وخفة دم طبيعية .. كل ذلك غلاف لموهبة شديدة التوهج تكاد تتفجر من داخلها وعينان معبرتان تحملان نصف قوتها وتلمعان بذكاء حاد جعلها تقتنص فرصة لا تتكرر بسهولة فأمسكت بـ “فاي” وأخرجت فيها من مستودع مهاراتها لتجعل من “فاي” نفسها نجمة وأيقونة تسبق “ستيفاني”.

إجادة “ستيفاني” في أداءها بهذه الحالة التي تستحق العلامة الكاملة لم تأتي بالمصادفة ولكنها نتيجة دراسة واعية ودقيقة لتفاصيل الشخصية وموهبة تمثيلية مفرطة جعلتها تصبح نداً قوياً لـ “باميلا” التي تسبقها بسنوات خبرة تمثيلية ربما يصل الفارق فيها ل 10 سنوات وأكثر .. استطاعت “ستيفاني” بثقتها في أدواتها أن تذيب هذا الفارق وتقف على مسافة قريبة من طرف الصراع الثاني .. هذا الصراع المبني عليه العمل كله من الأساس فلم يكن ليكتمل دون مهارات “ستيف” التي أبدعت في توظيفها خاصة تعبيرات وجهها التي تجيدها ببراعة فتغنيك عن الكلمات وتضيف للمشهد ثقلاً وقوة أكبر بجانب طاقتها الكبيرة التي تطغي على كل مشهد تظهر به امتد لاسم “فاي” عندما يٌذكر في مشاهد أخرى بجانب قدرتها على التحول في الأداء خاصة انتقالها من شخصية بكامل تفاصيلها في النصف الأول من الأحداث ثم التحول لأخرى هي النقيض تماماً بتفاصيل تزداد بشاعة تدريجياً جعلت من شيطان الانتقام الذي وسوس لها وبدأ يسيطر عليها خطوة تلي الأخرى حتى استسلمت وتركت له نفسها أن يتملكها ويظهر على ملامح وجهها في المشاهد الأخيرة وهو إن دل على شيء يدل أنك أمام ممثلة من العيار الثقيل.

نجاح “ستيفاني” تخطى الحدود فقد حصلت في نفس التوقيت على جائزة أفضل ممثلة آسيوية عن مشاركتها في الفيلم القبرصي “إيمان”في حفل “سبتيموس” الدولي بأمستردام فأصبحت فجأة نجمة من نجمات الوطن العربي وستنفتح أمامها بعد “فاي” أبواب البطولات .. والحقيقة أنها نجمة مميزة فهي تحمل معها مواهب غنائية وموسيقية تمتلك بها فريقاً خاصاً فهي نجمة شاملة تستحق التواجد في الأعمال المصرية مع كبار النجوم عن جدارة.

“محمود نصر – دكتور جواد”: صاحب الحضور الخاص والطاغي والأداء السلس السهل الممتنع يعرف قدراته الفنية جيداً وماهر في توظيفها استطاع أن يتلاعب بـ “جواد” كالعروسة الماريونيت فهو حلقة الوصل بين طرفي الصراع “عليا و فاي” بل أن الصراع قائم بالأساس عليه نفسه فلم يكن سهلاً التحول من الرقي والرومانسية والحنان والأخلاق إلى شخص بكل هذا السوء وهذه الحقارة والخسة وكأنه تأثر بالأجواء المسمومة التي أحاطت به لولا أنه استطاع ببراعة أن يقود هذا التحول ويتفاعل معه المشاهد حتى مع تعبيرات وجهه ونظرات عيناه التي تحولت بفعل الجرح ورغبة الانتقام وسيطرت عليه روح الشر ليصبح لاعباً ثالثاً مؤثراً في أرض المعركة.

“محمود نصر” اكتسب جماهيرية عربية واسعة بعد عرض مسلسل “ممالك النار” ثم استقبله المشاهد المصري بحفاوة في مشاركته بطولة المسلسل المصري “60 دقيقة” مع “ياسمين رئيس” وصنع بنجاحه الكبير أرضية قوية يستطيع الوقوف عليها بثبات في مواجهته للجمهور المصري الذي ينتظره ويحترمه ويدعمه.

“خالد شباط – باسل”: الوجه الجديد الواعد الذي يستحق عن جدارة جائزة أحسن ممثل ليس فقط في “كريستال” ولكن هو الأفضل لهذا العام على الأقل بأدائه العبقري لتركيبة شخصية “باسل” أصعب شخصيات العمل والتي تحتاج لممثل من نوع خاص تفوق فيها “خالد” بما يفوق الأداء العبقري وهو ما وضح في محافظته على إيقاع الشخصية على مدار 90 حلقة في الحركة والكلمة واللفتة بل أنه استطاع بقدرة غير عادية الحفاظ على معدل اهتزازاته طوال مدة التصوير التي استمرت لـ 9 شهور دون زيادة أو نقص وكأنه أصبح بتوحده مع “باسل” مريضاً حقيقياً بهذه الحالة فمن الصعب أن تقتنع أنه يؤدي شخصية في عمل فني ولكنك مقتنع تماماً بمنتهى اليقين أنك أمام “باسل كرم” المريض بمعاناته ونقاءه فاكتسب حباً شديداً وتعاطفاً كبيراً جعل من مشهد وفاته حدثاً مؤلماً من الصعب فصله فنياً عن الواقع وكأنه يملك من الخبرات سنوات طويلة في التشخيص وتفاصيله ليعلن عن نجم جديد جاء فجأة بمنتهى القوة وينتظر منه الجمهور الأقوى في القادم وهي مسئولية كبيرة وتحدٍ شاق سيخوضه “خالد شباط” خاصة أنه يظهر في عمل تالي مباشرة يحل محل “كريستال” في العرض وهو أمر غاية في الخطورة وسلاح ذو حدين ..
فهل يفعلها “خالد”؟

أما النجمة القديرة “رولا حمادة” فهي تمتلك من الحضور والقوة والثبات ما يجعلها دائماً مركز ثقل في أي عمل تشارك به وأضافت قوة كبيرة للشخصية التي تؤديها بالغموض وملامح الشر والأفعال الإجرامية بأداء مغلف بثقة خبرات السنين جعلها تصول وتجول بمنتهى الرشاقة بين الأحداث تهاجمها وتكرهها وأنت في شدة الانجذاب لها وهي الحنكة والدهاء الفني الذي يجعلك ترفض فكرة تصور بديل لها في هذا الدور وكأنها تكتب بيدها شهادة ميلاد فنية جديدة.

أما بنات الناطور “أخوات فاي” فقدمن أفضل أدوارهن على الإطلاق ..

“أنجو ريحان – ندى”: طاقة من الحنان والعقل والمشاعر وتضاربها بين الانكسار والإرادة لاستكمال مهامها وأولها محاولة لم الشمل وأخطرها الحفاظ على “فاي” من نفسها … “أنجو” تملك حضوراً يعبر للقلب مباشرة في كل أعمالها وهو جواز مرورها وسر نجاحها الدائم.
“لين غرة – ورد”: لا تخطئها عين فمن أول مشهد ستتأكد أنها ممثلة مسرحية .. قوة أداء وثبات وحركة وإلقاء وقوة في المواجهة .. تفاصيل دراستها المسرحية التي جعلت من شخصيتها أمام الكاميرا عنصر جذب مستمر بجانب خفة ظلها التي أضافت كثيراً لـ “ورد” خاصة بعد الحادث .. “لين” جعلت من “ورد” موثِقة لشهادة ميلادها الفنية الحقيقية.

“جوان زيبق – رفيف”: وجه واعد وموهبة مستقبلها كبير ومضمون بثقتها وتلقائيتها ورقتها وهدوئها وبراءة طلتها ما جعلها تضع بصمة خاصة وسط كل الصخب المصاحب للأحداث .. أداء متمكن وسلس استطاعت به المنافسة وسط مباراة الأداء القوية التي تدور حولها وتستطيع بهذه التركيبة تكرار تجربة مواطنتها “زينة مكي” في النجاح في المشاركة في أعمال مصرية خاصة أن “جوان” تمتلك في حضورها الدم المصري وهو ما سيقطع لها مسافات كبيرة ويختصرها لها.

أما باقي نجوم “كريستال” فكانوا بقوتهم التمثيلية وبريقهم داعم رئيسي وقوي لهذا النجاح الساحق وعلى رأسهم “ناظم عيسى – الناطور” و القديرة “صباح بركات – لمياء” والقديرة “ختام اللحام – أم إبراهيم”
ومعهم “فادي هواش – أوس / بلال مارديني – تامر فياض / إياد أبو الشامات – مالك فياض / عبد الرحمن قويدر – طلال / هيما إسماعيل – بيان في عودة قوية / علي سكر – عامر / مجدي مشموشي – بشير / ليا مباردة – هبة / علي منيمنة – الكينج نديم / عماد فغالي – دادو / حنين طفيلي – تمارا / سارة باسم زوق – نور” … الجميع نجوم بلا استثناء.

أما النهاية التي اختلف عليها الجمهور فهي منطقية جداً وتحمل رسالة مهمة أن من يترك نفسه لشيطانه ليسوقه فسيتمكن منه ويتجسد فيه .. صحيح سيكسب فتنته .. ولكنه سيخسر الجميع وهو ما وضح على ملامح “فاي” وسلوكها مع “ندى” تحديداً وشعورها أنها تفعل ما تفعله بغير إرادتها حتى أنها تقف قليلاً بعد كل ردة فعل تجاهها خاصة في مشهدها الأخير مع رد فعل “ندى” لتحاول استيعاب ما يحدث بعد أن فقدت السيطرة على نفسها بيد شيطانها.

الحقيقة أن النجاح الساحق الذي حققه مسلسل “كريستال” في نسخته العربية بحلقاته الـ 90 متفوقاً على النسخة التركية الأصلية يرجع سببه الرئيسي لمخرجه التركي “هاكان أرسلان” الذي أبدع في نقل الأجواء التركية للعمل بالروح العربية مع موسيقى المسلسل الأصلية التي تحمل نصف قوته بجانب إتقان النجوم السورية لـ اللهجة اللبنانية بشكل احترافي لتجد نفسك أمام حالة استثنائية من الإبداع للأعمال المُعرَّبة جمع الوطن العربي كله ليلتف حوله ويتحدث بمفرداته وفتح لأبطاله وصناعه الأبواب على مصراعيها للعبور إلى نقلة جديدة أكبر في مشوارهم الفني.

حالة من المتعة الاستثنائية جعلت من أصحابها بضاعة مميزة رائجة تلمع في “فاترينة كريستال الفاخرة”.