طارق سعد يكتب: المداح في أسرار النجاح


طارق سعد يكتب: المداح في أسرار النجاح

من الطبيعي وسط الصخب الدرامي أن تجد نجاحات يشار إليها بالبنان وتبحث فيها وعما وراء هذا النجاح ولكن نادراً ما تتوقف عند عمل تجده النجاح نفسه ويبقى بتركيبته الخاصة جداً مرجعاً لأسرار النجاح.

مسلسل “المداح” حالة درامية خاصة جداً بدأت بالقالب الذي تدور فيه مروراً بتفاصيله وإعادة اكتشاف نجومه انتهاء بإعادة الهيبة لمسلسلات الأجزاء وإعلان قدرتها على النجاح والاستمرار بقوة.

السر الرئيسي في نجاح “المداح” اختلافه واقتحامه لأبواب مسكوت عنها كان معلقاً عليها لافتة سوداء مكتوباً عليها “ممنوع الاقتراب أو التفكير” وهو ما يحسب للمؤلف “أمين جمال” وفريقه الذي قرر المغامرة بالقفز في المُعتم والمجهول ليكشف خباياه وتفاصيله ويخرجه للنور ويفضح سواده والسر الأكبر في هذا النجاح هي جرأته ودقته في كل التفاصيل خاصة الدقة المزدوجة بين الدرامي والديني فمن المرهق أن تبحث وراءه عن خطأ أو تتصيد له خطيئة فاستطاع الحفاظ على إيقاع العمل في 90 حلقة دون سقطات تتعارض مع العقل والمنطق مدققاً ومراعياً لكل ما يحيط بهذه القضية من آراء دينية فحقق التوازن ولم يجنح إلى الخيال أو الـ “فانتازيا” أو بلسان المشاهد البسيط “سكة تخريف”.

ابتعد “المداح” عن التجارة والمتاجرة فحفظ لنفسه مكاناً ثابتاً لدى المشاهد لمدة 3 سنوات متتالية بنفس الوهج والبريق والإثارة والاستقطاب وهو ما لم يحدث منذ سنوات طويلة في مسلسل درامي اجتماعي .. استطاع كسر القاعدة التي تكونت عند المشاهد بوقوع العمل في جزئه الثاني وانتهائه فيما بعد ومؤكد أن كل ذلك لم يكن في حسابات “أمين” وفريقه منذ بداية المشروع بالورقة والقلم ولكنه الإخلاص في العمل واحترامه والسعي للنجاح الحقيقي فلم يكن في الحسبان تقديم جزء ثان عند التحضير للأول ولكن النجاح الساحق دفع الجمهور للمطالبة بالثاني ليطالب بعده بالثالث وهي ظاهرة فريدة في الدراما المصرية نفتقدها منذ زمن طويل.

جزء أصيل من هذا النجاح الغير تقليدي يرجع للمخرج “أحمد سمير فرج” وهو من أفضل المخرجين الذين يجيدون تقديم الأعمال التي تعتمد على الحركة والإثارة ونجح فيها بعدة أعمال متميزة ولكن هذه المرة هي الأصعب فالمطلوب هو الحفاظ على إيقاع المسلسل على مدار 90 حلقة دون هبوط أو محاولة تعبئة الحلقة للوصول لزمن العرض المحدد وهو ما برع فيه “أحمد سمير فرج” بمنتهى الذكاء والتركيز ليجعلك تلهث خلفه 90 حلقة دون كلل أو ملل والحقيقة أن “المداح” شهادة ميلاد جديدة له بل شهادة تقدير أيضاً.

لا شك أن “حمادة هلال” أفضل مطرب اتجه للتمثيل الدرامي والأنجح بين كل زملائه فهو الوحيد الذي قدم أعمالاً كثيرة وكلها ناجحة ولكن سيظل “صابر المداح” علامة في مشواره الفني كله نتيجة لصعوبة هذه الشخصية والأجواء التي تدور فيها بما يحتاج أدائها لممثل عالي الاحتراف متمكن من أدواته يعي التفاصيل بمنتهى الدقة ثابت يستطيع الحفاظ على كل تفاصيله بلا ذرة اهتزاز لمدة 3 سنوات متتالية فيقنعك أن “صابر” شخصية حقيقية موجودة أمامك وليست درامية يؤديها مطرب في الأساس ولكن تفوق “حمادة” على نفسه جعل الجمهور يلتف حوله ويجعله اختياره الأول في جدول مشاهداته الرمضانية على مدار 3 سنوات وهو انجاز لم يتحقق بهذا الزخم من النجاح منذ رائعة “ليالي الحلمية”.

نجاح “صابر المداح” بهذا الشكل غير المعتاد منذ سنوات يؤكد أن التمثيل في الأساس موهبة قد تنمى بالدراسة وكثيراً ما تنمو بالاجتهاد والتركيز والسعي نحو الاحتراف ولكن القبول الرباني دائماً ما يكون الفيصل والكلمة الحاسمة و”حمادة هلال” منذ ظهوره الأول على غلاف “شريط هاي كواليتي 3” الغنائي في سن صغير وهو صاحب قبول استثنائي من الصعب أن يتكرر كثيراً مع موهبته وذكائه وتركيزه على أهدافه صنع حالة فنية متكاملة نموذجاً للنجاح.

على مدار 3 أجزاء لمعت الأبطال بشكل فائق للطبيعي وقد تغير جلد الكثير منهم تماماً وكأن “المداح” ملعباً احترافياً ممهداً بطاقم تدريبه أدارهم بما أعاد اكتشافهم فالكل تفوق على نفسه ولكن هناك بعض العلامات البارزة على رأسها القدير “جمال عبد الناصر” الغائب الحاضر فبالرغم من انتهاء دوره مبكراً إلا أنه ترك بصمة كبيرة ممتدة للجزء الثالث متمثلة في ابنته “رحاب” التي جسدتها “هبة مجدي” باقتدار فالتطور الكبير اللافت الذي طرأ على “هبة” في الشكل والأداء يستدعي الإشادة بها بعد نضوج واضح يؤكد أنها تجتهد وتعمل على نفسها كثيراً مما جعل “رحاب” أجمل أدوارها على الإطلاق وربما بداية جديدة يجب أن تنتبه لها “هبة مجدي” وتبني عليها القادم.

“محمد رياض” وكأنه وجه جديد يصول ويجول ويعلن عن نفسه كنجم ثقيل مؤثر يستطيع إعطاء الثقل للعمل وذابت به خبرات السنوات الطويلة لتشكل منه “وتد” يستند عليه العمل بمنتهى الثقة والأمان وأصبح “رياض” مصدر ثقة كبير بمجرد الإعلان عن وجوده في أي عمل إلا أن “هايم” في “المداح” نقلة كبيرة فأن ترى “محمد رياض” شريراً متغلباً على ملامحه الصافية القريبة من قلب الجمهور لدرجة أن يؤدي شخصية شيطانية بهذه السلاسة والثقة وهذا الهدوء مع القوة في نفس الوقت وهذا الشر أيضاً فأنت أمام ممثل بارع قدير
ليبقى “رياض” سهلاً ممتنعاً رائعاً ويترك جمهوره في حيرة من “هايم” متمتماً بلسان
“عبد الوهاب عبد الغفور البرعي” … “محمد رياض ده غريب جداً”.

“رانيا فريد شوقي” وتغيير جلد مفاجئ فـ “أحلام” إحدى مجندات الشيطان التي برعت في تأديتها رغم صعوبتها الشديدة فهي الحية التي تتحرك بهدوء داخل عائلة “صابر” تحتاج لثبات كبير معتمدة على تعبيرات الوجه والعيون فـ “أحلام” تتكلم بهما أكثر بكثير من لسانها والحقيقة أن “رانيا” ورغم مشوارها الطويل إلا أنها كانت تحتاج دوراً غير تقليدي تعبر فيه عن قدراتها بعيداً عن الشخصيات الاعتيادية و”أحلام” فرصة عمرها التي اقتنصتها تماماً وأثبتت توحشها وأن “وحشنة” الأداء في جيناتها التي ورثتها من والدها الراحل
“وحش الشاشة – فريد شوقي”.

“خالد سرحان” بشخصية “حسن” أثبت أنه فنان كبير يستطيع تقديم شخصيات مليئة بالتفاصيل بمنتهى البساطة ورغم أن الشخصية خفيفة الظل أقرب إلى الكارتونية إلا أن “خالد” وبخفة دمه الطبيعية جعل منها عاموداً رئيسياً في المسلسل فتنظر طلات “حسن” وردود أفعاله لتخرج الضحكة من القلب بقوة بلا ضجيج وتستشعر أن سنوات عمره القريبة من النجم الكبير “عادل إمام” طبعت عليه وحقنت روحه بكوميديا من نوعية “الزعيم” ليبقى “خالد سرحان” في منطقة منفصلة تماماً تفتح له الأبواب بقوة في المرحلة القادمة.

الثنائي الذي قاده “صبحي خليل” مع “خالد” صنع حالة من البهجة وجعل من “صبحي” نجم الـ “إيفيه” الأول على مدار 3 سنوات فهو الوحيد الذي استطاع فك شفرة أحداث كثيرة محيطة بالجمهور وأعطاهم كلمة السر التي يعبرون بها عن الحالة بمنتهى الأريحية في جملة معبرة موجزة .. “الله وكيل إحنا عايشين مع بهايم”.

أما “هلا السعيد” آخر عنقود الموهوبين والتي ثبتت أقدامها بقوة استطاعت أن تعلن عن نفسها كممثلة تملك قوة الأداء والجمع بين الخير والشر في تعبيرات ممزوجة في آن واحد تحتاج سنوات طويلة للوصل إليها فما قدمته من تفاصيل في شخصية “هبة” أخت “صابر المداح” على مدار 60 حلقة في الموسم الثاني والثالث ختماً على بزوغ نجمها بقوة في دور مليء بالتفاصيل الصغيرة والغموض من البداية والشيطنة في النهاية بعد سيطرة “هايم” عليها ويبدو أن في خضم الأحداث التبسها “جن الأداء” لتقدم مجموعة من أهم مشاهد الدراما التي كشفت عن عالم موازٍ وفتحت الباب للعديد من الأسئلة بعد توجيه “هايم” لها بالسيطرة لتنفذ له أهدافه فتقتل والدتها بالخطأ وهي الموجهة لقتل “صابر” وبعد الجريمة البشعة بين حالة الخضوع للسيطرة وبين الإفاقة ثم العودة ثم الإفاقة كانت عظمة الأداء بالتعبيرات بين التحدي والشراسة ثم الصدمة والرفض لما حدث مما جعلها أشبه بالجثة منزوعة الإرادة والوعي وهو ما يجعلنا نعيد التفكير في مشاهد أحداث كبيرة وجرائم صادمة حدث في الفترات الأخيرة على رأسها ذبح فتاة المنصورة “نيرة أشرف” لتقف متسائلاً .. هل هناك أحداث يمكن أن تكون مدارة حولنا بهذا التوجيه لا نعيها ولا نعلم عنها شيئاً ونتعامل معها بترتيب تفكيرنا العقلاني الطبيعي؟

أعتقد أن مشاهد “هلا” ستجعل الإجابة صادمة ومرعبة وفي الاعتقاد أيضاً أن المؤلف “أمين جمال” وفريقه لم يتوقفوا بالقصد عند هذه النقطة تحديداً بتفاصيلها ولكنها الحالة المتكاملة المبنية على التعمق والدراسة والفهم والاجتهاد بالإخلاص في العمل هي ما قادتنا لهذه المنطقة وساقت “هلا” لترجمتها بأداء فطري يؤكد أنها تمتلك موهبة أكبر بكثير جداً مما ظهر منها خلال أعمال قليلة هي رصيدها الفني منذ بداية مشوارها ولكن المؤكد أن “هلا السعيد” قناصة تمثيلية من الدرجة الأولى فبعد اقتناصها لفرصة تجسيد المصارعة “سمر حمزة” في مسلسل “إلا أنا” وتحقيق نجاحاً ساحقاً كتب به شهادة ميلادها اقتنصت أيضاً فرصة “هبة” في “المداح 3” لتوثق شهادة ميلادها الفنية وتختمها ختماً رسمياً واضحاً معتمداً ستنطلق به إلى أبعد مدى.

الحقيقة أن فكرة إنتاج هذا العمل المهم والذي يعتبر عملاً للتاريخ بهذا النجاح في كل موسم يستدعي التقدير للمتحمس المتعطش الدائم للنجاح المختلف .. المنتج “صادق الصباح” الذي يثبت في كل عمل بعد الآخر أن بصمته قوية ومؤثرة ومميزة وأصبح من المنتجين الكبار الذي تتفاءل وتثق بمجرد الإعلان عن عمل درامي جديد يحمل اسمه وهي مسئولية صعبة نتاج سنوات طويلة من الخبرة .. كذلك المنتج “إسلام المرسي” شريك نجاح “المداح” الذي ساهم في صناعة ملحمة درامية من أهم أعمال دراما العصر الحديث وكتب اسمه بحروف من النور كمنتج مغامر وواعٍ.

“المداح في أسرار النجاح” .. أشبه بكتب مراجعات الامتحانات الدراسية الشهيرة يمكنك الرجوع إليه لمعرفة كل الإجابات التي تخص نجاح العمل الدرامي بكل تفاصيله واستمراره لأجيال قادمة.