“دور العمر” دراما الاستحواذ السينمائي.. سحر الأداء وجمالية الصورة


بقلم فاطمة داوود

هو مسلسل التفاصيل الدقيقة. لا يسعك الالتفات هنيهة ، ثمة مشهد كثيف بأحداثه وحواره سيفلت منك، يستحوذ على حواسك كاملة. “دور العمر” بقيادة المخرج سعيد الماروق وبطولة سيرين عبد النور وعادل كرم، يسحرك بحواره (كتابة ناصر فقيه)، بصورته فائقة النقاء، فخامة الألوان وشدة تماسكها، انه الاستحواذ السينمائي لعقلنا وذوقنا عالي المستوى. فيه نعيد اكتشاف شخصيات نحبها، نتابعها، لكنها هنا بلوحات متألقة. سيرين عبد النور جوهرت بدور “شمس”، لم نكن نتوقع القليل لكن أدائها وشى بالكثير والفيض. هي الشخصية المعقدّة، السيكوباثية، تتأرجح بين الانتقام لنفسها وبين الشفاء من آلام وجروح الماضي. تسخّر جمالها واثارتها لتوقع عادل كرم “فارس وأمير” بشباك حبّها، فيصبحا يدأ واحدة للبطش بالمجرمين المتسللين الى مجتمعنا. بعد رفض قاطع ، يرضخ “فارس” أمام جبروت سحرها ويلعب دور البطل “أمير” في مسلسل “الجلّاد” كحقيقة منجراً الى ارتكاب الجرائم. هي ليست جرائم حسب تبريرهما، انما تحقيق للعدالة التي عجزت الدولة أمامها بكل اجهزتها.

“دور العمر” الذي يعرض على منصة شاهد ويتصدر المراكز الأولى بالمشاهدات حول العالم، يسلّط الضوء بالمجهر الى الفساد المجتمعي – العائلي، فالتربية والعنف المنزلي يؤسسان لجيل من مشاريع الاجرام، هنا  تحوّل لرافعة انتقام وتطهير. يقفز الكاتب ناصر فقيه بين الألغام، ليخلص المجتمع من تجّار الأعضاء البشرية والمغتصبين للنساء، والمتاجرين بالبشر.

 يدير المخرج المبدع سعيد الماروق صاحب الرقم القياسي بإخراج الفيديوكلبيات في العالم العربي، دفة مسلسل “دور العمر”، بتحدي عالي المستوى، أرادها حرباً مع نفسه، فهو القنّاص الماهر الذي انتظر اللحظة الانتاجية المناسبة وتضافر الأبطال والممثلين المحترفين ليعلن انطلاق الدراما اللبنانية المنافسة لكل الانتاجات العربية بتفوّق سينمائي غير مسبوق. كم من مشهد شكل رافعة المسلسل لإحداث الدهشة والذهول امام جماليته، فها هي “شمس” داخل المصّحة تستغل الموظفين الواحد تلو الآخر لتحقيق مآربها وتسبب لهم المذلة والطرد لكنها بالمواجهة مع مدير المستشفى غير آبهة بما حصل لا بل تخطو للإيقاع بالمدير دون جدوى. مشهد جمعت فيه كل الأدوات الحسيّة والبصرية ليخرج master scene  يستحق التصفيق والتنويه. يقدم “فارس” (عادل كرم) مشاهده الهادئة بأبعاد نفسية عميقة تضرب الى ماضي عائلته المتأزم، فوالده الذي قتل غدراً برصاص طائش بسبب احد الزعماء، وزوج امه الظالم والمستبب بزج والدته في السجن بعدما فدته بنفسها وخبأت على العدالة قتل “فارس” له كي تنقذه. كل ذلك ترك ندوباً في عقله وروحه. “فارس” كنصف باحث عن نصفه الآخر، شكل هذا الانهيار السريع أمام شمس، لم يكن هناك مرحلة زمنية طويلة، لقائها كان لحظة الانفجار ليعود…وينتقم.

قوة “دور العمر” تجسدت بأبطاله المنتقين بعناية شديدة، ومشاركة طلال الجردي بدور المحقق الصالح، والوطني بامتياز اضفت توازناً للرعب الذي نعيشه مع كل طرقة باب لإجراء التحقيقات بعد تلازم الجرائم والخيوط المتشابكة والمتقاطعة مع وجود شخصية “شمس”. ظهور الممثل سعيد سرحان كتاجر حصري للمخدرات لا يقل أهمية عن كل الأبطال فقد شكل ذروة المستوى العالي لمشاهد الأكشن المصنوعة باحترافية شديدة. علي الخليل، يعود إلينا باختلاف لا بل انقلاب، فهو الأب اللاهث خلف رغباته وعشقه للخيانة وتصويب الطعنات لأقرب الناس إليه، فلا يتوّرع عن الانغماس بعلاقة حبّ ممنوعة مع أخت زوجته، ولا يردعه شيء لأذية ابنته “شمس ” بعد فضحها الأمر فيزجها بمصحة نفسية كي يقال انها مجنونة. يقدم شخصية شريرة ووقحة في آن. هذا ما لم نعتاد عليه.

مجتمعنا السفلي الذي يخفي الجرائم الانسانية على أنواعها طافت على السطح، فأخرجت “القوادة” التي تبيع الفتيات صغيرات السنّ من حجرها، تلك التي تنسّق وترتب لقاء الرجال الأثرياء بالعذراوات قلبها ميّت، لا يهمها وجع او موت احداهن، ما يهمّها الأموال التي تتقاضاها لتشتري قصراً فارهاً. السفّاح الذي يخطف الرجال والنساء والأطفال ويهرّبهم عبر الحدود التركية ليشرّح اجسادهم ويقطعها كقطع غيار ليس إلاّ، ويقبض المال نهاراً ليعود ليلاً الى حضن عشيقته يتنعم بملذات الحياة دون ان يرفّ له جفن. مدير السجن الفاسد المتسلط، المجرم اخلاقياً وانسانياً ينتظر سجن الفتيات والسيدات لينفرد بهنّ بمعونة رئيسة السجن كي يغتصبهن ليلاً ويضربهنّ ضرباً مبرّحاً وبعد موته يشيع كموظف وطني في الدولة. تاجر الموت المتنقل بين المدارس والجامعات ينهش بالأجساد الطرية ليحقق ثروات هائلة متلذّذاً بالقتل، مطلقاً قهقهة بلهاء تنمّ عن استلشاء بالروح البشرية .  أبطال الشر لا يستحقون الحياة بوجهة نظر “شمس” و “فارس” لا بد من الاقتصاص السريع. فالدولة عاجزة وتنتظر الدلائل والاثباتات واحكام القضاء لسنوات وسنوات، والوضع لا يستحمل الانتظار فهناك أرواح تزهق كل يوم.

“دور العمر” من اعمال منصة شاهد الاصلية، ويعرض حصرياً على المنصة وهو دراما استثنائية مكثّفة  بجرعات التشويق والرعب والإثارة أخرجها سعيد الماروق الى النوّر بوهج قوي وبرّاق، سانده أبطال جسّدوا الشخصيات باحترافية وتجدد، وشركة انتاج سخت بدفق عليه بإشراف طارق كرم (roof top production ) فلم يكن مستغرباً ان يحظى بهذا الكم الهائل من المشاهدة على “شاهد” لكنه حتماً يستحق العرض على القنوات المفتوحة أمام الملايين ليرى العالم…الإبداع اللبناني.